الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد:
إن جهاد الأمة الجزائرية لم تنقطع أوصاله ما عُمرتْ هذه الأرض المباركة بإنسان حي، جَمَّلَتْهُ الفضائل، وسمت به نفسه إلى المكامل، فكانت حركة جهاده نحو العلا ديمومة متواصلة، تتأجج نارها، ويمتدُّ أوارها ليغطي مساحات الأزمان والقرون، ويتوارث مجدها عن الآباء البنون، ومن أقرب أمثلتها في آخر الأعصار، ما قامت به جمعية الأطهار، من علمائنا الأخيار، والتي عرفت: بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المبرورة.
تأسست جمعية العلماء باجتماع ثلة من أعيان علماء الجزائر يوم 05 ماي 1931م، بنادي الترقي بالعاصمة، واختير الإمام عبد الحميد بن باديس رئيسا لها.
وفي الـدار جــمعية العلــــــماء تغذي العقول بوحي السماء
وتهدي النفوس الصراط الســـــــــوي وتـغرس فيـها معاني الإباء
أهدافها:
وإن أهم أهداف هذه الثلة المباركة، هو العمل على إعادة الأمة الجزائرية إلى دينها، وسؤددها، ومكانتها، بعد عملت معاول الهدم، وسيوف الحدثان على تغييبها، ومحو شخصيتها، وإذابة ذاتها في غيرها.
واتخذت من الآية الكريمة سبيلا إلى وصولها لأهدافها: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾، ورفعت شعارات عدة ، تخدم كلها الهدف الأساسي لقيامها:
لمن أعيش؟، وأجاب الشيخ بن باديس نفسه: (للإسلام وللجزائر).
وقد صدح الإمام في ذكرى المولد النبوي الشريف فقال:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب
أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
*****
بوسعادة والنشاط الإصلاحي:
مما يلحظ أنه في بداية القرن العشرين، هو ظهور بوادر نهضة علمية كبيرة، تصدرتها مجالس العلماء والفضلاء، في حلقات المساجد، أو الزوايا التي انتشرت في ربوع البلدة ومحيطها.
فمن المساجد الهامة آنذاك:
نجد مسجد الزقم، وقد ظهر نشاطه العلمي على يد الشيخ أحمد بن مازوز الهاملي (1885-1943م)، (أشاد ونوه به الشيخ محمد العاصمي في وصفه حفلة الاحتفاء بإسلام الحاج ناصر الدين ديني سنة 1928م، واصفا إياه بالمترسل البليغ)، ومسجد النخلة، ومسجد أولاد حميدة، (وإمامه الشيخ زروق)، ومسجد الشرفة الذي بناه الأمير الهاشمي بن الأمير عبد القادر، ومسجد لمامين، وعمدة أئمته الشيخ عبد الرحمن بيوض، وقد كان مركز الإصلاح وقطبه، وفي رحابه عُممت آثاره، وانتشرت أخباره.
ومن شيوخ المدينة أيضا: آل بن حامد، وآل بن سالم، وابن السنوسي، ومحمد بن عمران، والأستاذ أحمد بن جدو قيرش وغيرهم…
*****
أما زاوية الهامل، فقد كانت وفود العلماء والطلاب، مما أحدث حراكا معرفيا له صداه في أرجاء البلاد، وذاع صيته، وعمت فائدته، فشيوخها، وطلابها، من المقيمين أو المرتحلين، كان لهم الأثر الفعلي في نشر العلم وبثه في مدينة بوسعادة وضواحيها، نذكر منهم:
الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي الضرير، والشيوخ آل القاسمي، سي مصطفى بن محمد، وعبد القادر، وعبد الحفيظ، والشيخ عبد الحي الكتاني المغربي، والشيخ وغيرهم…
*****
جمعية العلماء المسلمين ببوسعادة:
لم تحفظ لنا مخلفات السابقين تاريخا محددا ولا مضبوطا، بذكر الوقت الذي تأسس فيه فرع جمعية العلماء ببوسعادة، ولا الأعضاء المؤسسون الأول، إلا أنه وباستصحاب قرائن الحال، نجده في أواسط الثلاثينات، على يد الشيوخ: عيسى بسكر، وعبد القادر عماري، ومحمد زروق رحمهم الله تعالى.
وإن جهود الشيخ زروق الإصلاحية لها من التأثير الحظ الظاهر في مسيرة الحركة الإصلاحية ببوسعادة، فقد أسس مدرسة الفتح التي دام نشاطها مدة عشر سنوات (1942-1952م)، وهي مدرسة عصرية شبه نظامية، أمَّها طلبة كثر، وتخرج منها عديدون، كانت محل ثناء وتقدير لمن زارها من العلماء والفضلاء.
*****
ابن باديس في بوسعادة:
مما حفظته آثار المدونين، أن الشيخ عبد الحميد بن باديس قد تكررت زيارته إلى بوسعادة مرات عدة، منها زيارته سنة 1932م، في جولته القطرية التي عمد فيها إلى محاولة رأب الصدع الحادث بين الإصلاحيين والطرقيين، وشرح أهداف الجمعية، وقد صلى بالناس في مسجد أولاد أحميدة إماما، وألقى درسا كما هو مقرر في برنامج زيارته.
وهذه الزيارة هي التي استغلها أهل بوسعادة ليطلبوا من الشيخ بن باديس السعي معهم لثني الشيخ زروق عن سفره إلى المشرق، وقد بين له بن باديس مقدار حاجتهم إليه، وأن أهل الحجاز في غنية عنه.
ثم زيارته لها في سنة 1938م، بمناسبة إقامة الشيخ زروق حفلا لتخرج دفعة من طلابه.
*****
ومما هو مشهور في نشاط جمعية العلماء، هو الوفود التي كانت تحل بها من حين لآخر، تنشر العلم، وتبث الوعي، منها ما كان يقوم به الشيخ نعيم النعيمي (1909-1976م)، فقد كان يلقي دروسا مسجدية بمسجد أولاد حميدة، ومسجد الزقم، في رمضان المعظم.
كما كان للشيخ المبارك الميلي، زيارات وعلاقات بأعيان المدينة وأهلها، مرشدا، وواعظا، وموجها، وجامعا للاشتراكات والعطيات، دعما للجمعية ونشاطاتها.
*****
ولجمعية العلماء، أنصار ومحبون داخل المدينة منهم:
الشيخ عيسى بسكر، وهو واحد من العلماء الذين شاركوا في الملتقى التأسيسي للجمعية، وفي جميع ملتقياتها التي بعده، وتم تعيينه في لجنة الإصلاح الاجتماعي، تحت إشراف الأستاذ الفضيل الورثلاني سنة 1936م.
يعتبر الشيخ عيسى بسكر من ألمع أعضاء التيار الإصلاحي ببوسعادة، وصفه الشيخ عبد الحميد بن باديس بأنه الشاعر الفطري، وأديب بوسعادة بلا منازع.
قال الشيخ عيسى بسكر منوها بمجلة الشهاب وصاحبها في عيدها الخامس:
حَيِّ الشِّهَاب وحَيِّ الشَّيْخَ باديسا واسأل له اللهَ توفيقا وتأنيسا
وقل رعاك الذي أعطاك موهبة حزما وعزما، وتأليفا، وتدريسا
لله درك يا عبد الحميد لقد محوت عن ديننا المحبوب تدنيسا
نسفت بدعة قوم كان دأبهم سلبا، ونهبا، وتضليلا وتدليسا
سار الشهاب على رغم الحسود خطى
يطوي المراحل تأويبا وتغليسا
في بحر خمسة أعوام أنار لنا روحا مكهربة أذكت فوانيسا
******
وله في الدعوة إلى العلم، قصيدة: (وما العِلم إلاّ مشاع)، نشرت في (الشهاب) 1صفر 1349-يوليو 1936م، منها:
متى فكـر الناس واتحدوا فعدوا على النفس واعتمدوا
وضموا إلى العلم حسن الرجاء وزال التخاذل والحسد
فما نيرات النجوم بشيء رجوه ويخلق ما قصدوا
وما راسيات الجبال بشغل بعيد المنال إذا اجتهدوا
وكم أوضـح الله أحجية عسير الزوال إذا رشدوا
يحقــق ربــــك أبـــدع ما أتوها ومن جهدوا وجدوا
*****
وقد تأثر الشيخ عيسى بسكر كثيرا لوفاة الشيخ عبد الحميد فبعث رسالة حزينة، وألحقها بقصيدة منها:
هبوا إلى دار الإمام وحققوا ما بالإمام وما له لا ينطق
ما للتلاميذ الكرام تجمعوا من حوله، وبه الوفود قد أحدقوا
لم يفتتح درس الحديث ولم يفهْ وتعودوا من بحره أن يستقوا
ما ذا عرى عبد الحميد وعاقه عن نطقه وهو الخطيب المفلق؟
*****
ومن رواد الحركة الإصلاحية الشيخ عبد القادر عماري مناصرها، وواحد من روادها، خطيبا مفوها، وإماما بمسجد الزقم، بعد وفاة الشيخ أحمد بن مازوز.
قال في مقالة له بجريدة الشهاب في حق الجمعية وما تقوم بأنها تحيي: (ما اندرس من العلوم الحقة، وأنارت بصائر كثير من الأدباء، وجعلت ضالتها المنشودة، وحاجتها المقصودة، إحياء السنن وإماتة البدع).
*****
ومنهم الأستاذ عيسى بسكر، الأديب المثقف، والإداري والسياسي الكبير.
*****
وممن ذكرتهم صحائف الإصلاح، وأخبار المصلحين، مع شح تفاصيلها، وندرة مورودها نجد: الحاج سليمان جوة، وعمر قطاي، والحاج بازة العربي، والحاج بلقاسم طاهري، وغيرهم…
*****
بل ونجد أن المساهمات المالية لفرع بوسعادة كثيرا ما تعد من ضمن المساهمات ذات الأثر في مسيرة الجمعية، وقد ذكرت لنا البصائر عددا من أسماء محسني الجمعية منهم: محمد بن بلحوت، وعبد القادر بسكر، والحاج العربي بازة، وعيسى لقرادة، وعبد الرحمن بن يحي، وبوغلام بلقاسم، وقد بلغت قيمة اشتراكاتهم مبلغا مرموقا باحتسابها على مقدرات ذلك الوقت، وهو مائة وعشرون ألف (12.000) فرنك فرنسي.
*****
وفي فترة الأربعينات، أثناء الحرب العالمية، وبعدها، حينما وضعت أوزارها، دخل في مسيرة الإصلاح ببوسعادة رافد جديد، ألا وهو جماعة الكشافة الإسلامية، على رأسهم: الشهيد عبد القادر بن حميدة، فقد ذكرت مصادرنا: أن سبب تأسيس فرع الكشافة ممثلة في فوج الفضيلة، هو ما كانت توليه جمعية العلماء لرواده، كان ذلك سنة 1940م.
*****
ثمارها:
إن ثمرة الفضيلة التي قامت جمعية العلماء بالدعوة إليها تمثلت في شيئين اثنين:
الأول منهما: وهي الاستقلال الفكري والمادي من رقبة الاستعمار، ولولا جهاد ابن باديس ورفقته، لما كانت ثورة، ولما كانت دعوة للاستقلال، وهو أمر لا يدلل عليه ولا يبرهن،
هو فكرة المعهد، محاكاة لمعهد ابن باديس في قسنطينة، فقد أجمعت كلمة المخلصين من أتباعها على وجوب إنشاء معهد علمي يرقى بطاقات أبنائها تأطيرا وتعليما، وفعلا تشكلت لجنة إدارية للمجاهدة في سبيل تأسيس هذا المعهد سنة 1952م، على رأسها الأستاذ عيسى بسكر، وبدأت خطواتها الأولى لتتقابل مع اشتعال فتيل ثورة التحرير المباركة، وما حدث نتيجته من التضييق على حركة الفكر والعلم، واشتغال الكل بالحادث الجديد، وهو الثورة على المستعمر الغاشم، لتؤجل الفكرة إلى لاحق، ثم تحققت أخيرا بعيد الاستقلال، بتأسيس المعهد الإسلامي، وظهوره إلى حيز الوجود، وهو الذي ساهم في مد الحركة العلمية والثقافية بأيد بيضاء، وجمع في طاقمه كوكبة خيرة من فحول علماء العالم الإسلامي، تخرج على أيديهم ثلة من إطارات الأمة وكوادرها.
*****
وكل هذا، قد حفظ للأمة الجزائرية دينها، وسلامة عقيدتها، وأخلاقها، وأعد جيلا أهله لأن يحمل سلاحه في وجه العدو، مقاتلا إياه حتى دحره وأخرجه، ونال حريته وكرامته، وقد تنبأ المؤسس الأول رحمه الله فقال:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب